الجمعيات الخيرية وسوء الظنون بين الإخوان
(ضمن سلسلة روابط الأخوة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة وربطها بواقع الأمة)
الحلقة رقم (37)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
ظن بعضهم أن نصرة الإسلام قد تتم بإنشاء المؤسسات الخيرية التي يُعقد لها الولاء والبراء الصِّرْف معتقدين أن من حذَّر منها كونها سبيلاً للتحزب جريمة غير مستساغة شرعاً ، وهذا فهم خطأ، إذ لا حرمة في إنشاء المؤسسات الخيرية البتة ، إنما الحرمة في جعلها طريقةً يُعقدُ في سبيل تحقيقها الولاء لمن شاركهم، والبراء ممن نصحهم أو حذَّر من أفعالهم المخالفة.
فلماذا الظنون السيئة من أولئك النفر الذين ألزموا أنفسهم ومجتمعاتهم بلوازم لا تلزم ؟! إنه الفعل السيئ الذي بقي درنه في النفوس وشغفه في القلوب، والذي ينحصر في قاعدة المبتدعة: "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فوقع الطرفان ممن يحذر من الجمعيات مطلقاً ومن يعقد لها الولاء والبراء بين إفراط وتفريط.
قال بعض الحكماء: إذا ساء الفعل ساءت الظنون، وقد أحسن من قال :
إذا ساءَ فِعْلُ المرءِ سَاءتْ ظُنونُـهُ *** وصَدَّقَ ما يعتادُهُ مِن تَوهــــمِ
وكان الأولى بالطرفين أن يعلموا يقيناً أنه ما مِنْ عمل خيري فلن يسود المجتمعات ويرتفع ذكره حتى يكون أساسه خالياً من الولاءات الضيقة والبراءات المتوسعة التي ما أنزل الله بها من سلطان إلا سلطان قوله تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} ([1]).
وفي المقابل يلزم الطرف الآخر أن يؤمن أنه لا حرمة في إنشاء المؤسسات الخيرية البتة إذا خلت من التحزبات والولاءات الضيقة.
ومن هنا كان الولاء لكل مسلم على قدر طاعته ومعصيته، وهذا يعني أن المسلم يوالي أخاه المسلم في كل أمر مشروع ويبغضه في كل أمر ممنوع ، وعلى قدر البغض والحب يكون الولاء ، فيخرج عن هذا الولاء موالاة المسلم لصديقه أو شيخه أو جماعته أو حزبه في كل شئ يفضي إلى التحزب الذي يعادي في سبيله ويناصر في سبيله ، بحيث أن كل من وافق فلاناً من الناس على طريقته وفكره فأخي المسلم الذي أقرِّبُه مني وإن خالف الشرع.
هذا من البدع المضلة المفضية إلى منهج الخوارج والروافض والنعرات الجاهلية.
قال ابن تيمية: "فلا يفرق بين المؤمنين لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض مثل الأنساب والبلدان والتحالف على المذاهب والطرائق والمسالك والصداقات وغير ذلك ، بل يُعطى كلٌ من ذلك حقه كما أمر الله ورسوله ولا يجمع بينهم وبين الكفار الذين قطع الله الموالاة بينهم وبينه فإن دين الله هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً " ([2]).
وقال رحمه الله : " فقد أخبر سبحانه أن ولي المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنون ، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة سواء كان من أهل نسبة أو بلدة أو مذهب أو طريقة أو لم يكن [قال سبحانه] : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}([3]) اهـ.
وعلى كل حال مهما حصلت التهم بين الأطراف فإن الحاسم لذلك قاعدة: "الحب والبغض بين المسلمين على قدر الإيمان والمعصية".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والواجب على كل مسلم أن يكون حبه، وبغضه، وموالاته، ومعاداته تابعاً لأمر الله ورسوله، فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله، ومن كان فيه ما يُوالى عليه من حسنات، وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض بحسب ما فيهم من البر والفجور فإن: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)} ([4]) أهـ
والحاصل: أن كل المؤسسات الخيرية التي تسعى لمساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين وتعمل في نشر العلم النافع وتدافع عن الكتاب والسنة وحملته خاليةً من المناهج المنحرفة والأفكار الدخيلة مؤسساتٌ مباركة لا ممانعةَ شرعاً من جوازها ومساعدتها والوقوف معها لكونها تؤدي رسالةً مشروعة لتدفع بالأمة إلى ما يرفع عنها الضرر ويخفف عنها وطأة الألم ، وأما ما دونها مما هو مخالفٌ للمنهج الصحيح - الذي قام أصحابه لنصرة الأفكار الدخيلة والتجارب الخالية التي سقطت وانتهت عبر السنين ومحتها الأحداث وغيرها مما خالف الكتاب والسنة وطريقة الرعيل الأول ـ فركامٌ يتبدد وبناء يضمحل، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17)}([5]).
أكتفي بهذا القدر، وللكلام بقية أستأنفه غداً بإذن الله، وفق الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_______________
([1]) سورة المائدة ، الآية رقم (55).
([2]) قاعدة في المحبة لأحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس (ص133), تحقيق : د. محمد رشاد سالم, مكتبة التراث الإسلامي - القاهرة.
([3]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 418)، والآية رقم (71) من سورة التوبة.
([4]) المصدر السابق (35/ 94) .
([5]) سورة الرعد الآية رقم 17 .