الأحد 19 ربيع الآخر 1447 هـ || الموافق 12 أكتوبر 2025 م


قائمة الأقسام   ||    روابط الأخوة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة وربطها بواقع الأمة    ||    عدد المشاهدات: 6328

أمثلة تطبيقية توضح صبر وتجلِّد بعض الصالحين وإرسائهم مبدأ الأخلاق الرفيعة

(ضمن سلسلة روابط الأخوة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة وربطها بواقع الأمة)
الحلقة رقم (59)

بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني


لتمام الفائدة إليك أخي القارئ الكريم ما ذكره بعض أهل السير من تصبّر وتجلِّد بعض الصالحين وإرسائهم مبدأ الأخلاق الرفيعة، ولو تحملوا في سبيل إقامتها العناء ومرارة العيش:
يُحكى أن مريم امرأة أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري ([1]) قالت: صادفت من أبي عثمان خلوةً فاغتنمتها ، فقلت يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك؟
فقال: يا مريم لما ترعرعت وأنا بالري كانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، فجاءتني امرأة، فقالت يا أبا عثمان قد أحببتك حباً اذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل به إليك أن تتزوج بي، فقلت: ألكِ والد ؟
قالت: نعم فلان الخياط في موضع كذا وكذا، فراسلت أباها أن يزوجها مني ففرح بذلك، وأحضرت الشهود فتزوجتها، فلما دخلت بها وجدتها عوراء عرجاء شوهاء الخلق، فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي، وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك وأزيدها براً وإكراماً إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها فتركت حضور المجالس إيثاراً لرضاها وحفظاً لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدي لها شيئاً من ذلك إلى أن ماتت، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي"([2]).
ويُحْكى عن المقنع الكندي ([3])الحضرمي اليماني أحد أعيان القرن السابع الهجري هذه الأبيات التالية التي يصور فيها ما كان عليه إخوانه وأبناء عمه من الإساءة إليه والجهل عليه رغم إحسانه إليهم وحلمه عليهم ، فيقول :
وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبــــــــــــــــــي... وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِــــــــفُ جِــــــــــــدّا
أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِن هُـــــــــــــمُ... دَعَوني إِلى نَصـــــــــــــــــــــرٍ أَتيتُهُم شَدّا 
فَإِن يَأكُلوا لَحمي ([4]) وَفَرتُ لحومَهُــــم... وَإِن يَهدِموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجــــــــــــدا 
وَإِن ضَيَّعوا غيبي حَفظتُ غيوبَهُــــــــــم... وَإِن هُم هَوَوا ([5]) غَييْ هَوَيتُ لَهُم رُشدا
وَإِن زَجَروا طَيراً ([6]) بِنَحسٍ تَمرُّ بـــي... زَجَرتُ لَهُم طَيراً تَمُرُّ بِهِم سَعــــــــــــــدا
وَإِن هَبطوا غوراً ([7]) لأَمرٍ يَسؤنـــــي... طَلَعتُ لَهُمْ ما يَسُرُّهُمُ نَـــــــــجــــــــــــــدا
فَإِن قَدحوا ليْ نارَ زندٍ ( ) يَشينُنـــــــي... قَدَحتُ لَهُم في نار مكــــــــــرُمةٍ زنـــــــدا
وَإِن بادَهوني بِالعَداوَةِ لَم أَكُــــــــــــــن... أَبادُهُم إِلا بِما يَنعَـــــــــــــــــت الرُشــــــدا
وَإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّـــــــــةً ([8])... وَصَلتُ لَهُم مُنّي المَحَبَّةِ وَالــــــــــوُدّا
فذلك دأبي في الحياة ودأبهــــــــــــــم ... سجيسَ ([9]) الليالي أو يزيرُونني اللحــدا
لهم جل مالى إن تتابعني غِنَـــــــــــىً... وإنْ قلَّ ماليْ لم أكلِّفهم رِفْـــــــــــــــــــــدا ([10])
وإني لعبدُ الضيف ما دام نـــــــــازلاً... وما شيمة لي غيرها تُشْبِهُ العبـــــــــــــــدا
على أنَّ قوميْ ما ترى عينُ ناظـــــرٍ... كشيبهمُ شيباً ولا مُرْدُهمْ مُــــــــــــــــــرْدا
بفضلٍ وأحلامٍ وجُــــــــــــودٍ وسُؤددٍ...وقومــيْ ربيعٌ في الزمـــــــــــــانِ إذا شَـدَّا ([11])

أكتفي بهذا القدر، وللكلام بقية أستأنفه غداً بإذن الله، وفق الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.

___________
([1]) سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ الزاهد الحيري ، ولد بالرى ونشأ بها، ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن توفي بها ، سمع من محمد بن مقاتل وموسى بن نصر وغيرهما، ومن جميل أقواله يقول " موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم " ، توفى ليلة الثلاثاء لعشر بقين من ربيع الآخر سنة 198هـ [تاريخ بغداد للخطيب (9/ 99) ، مصدر سابق].
([2]) تاريخ بغداد للخطيب(9/ 101) ، مصدر سابق ، صفة الصفوة لابن الجوزي(4/ 105ـ106) ، مصدر سابق].
([3]) محمد بن ظفر بن عمير بن أبي شمر الكندي ، الملقب بالمقنع ، [ المتوفى عام 70هجرية ] ، والمقنَّع لقب غلب عليه لأنه كان أجمل الناس وجهاً ، وكان إذا سَفَرَ اللثام عن وجهه أصابته العين ، وقد كان كان متخرقاً في عطاياه سَمْحَ اليد بماله، لا يرد سائلاً عن شيء حتى أتلف كل ما خلفه أبوه من مال، فاستعلاه بنو عمه بأموالهم وجاههم ، وهوي بنت عمه عمرو فخطبها إلى إخوتها ، فردوه وعيَّروه بتخرقه وفقره وما عليه من الدين ، فقال هذه الأبيات المذكورة " وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي ..إلى آخرها". [ الوافي بالوفيات للصفدي (ص370).
([4]) كناية عن الكلام في عِرْضه ، أو استجلاب الشر له منهم.
([5]) أي أرادوا شقاوتي وضلالي.
([6]) كناية عن التفاؤل بالخير وتمني السعادة لهم بعكس ما هم عليه نحوه.
([7]) سهلاً.
([8]) يقال فلان يلومني ضَلَّةً إذا لم يوفق للرشاد في عذله [انظر مختار الصحاح للرازي(ص403)].
([9]) ويقال لا آتيك سَجِيسَ الليالي أَي آخِرَها [انظر لسان العرب (6/ 104)].
([10]) أي عطاء.
([11]) الوافي بالوفيات للصفدي(ص370)، وكتاب الأغاني للأصفهاني(17/ 113-114)، ديوان الحماسة لأبي تمام برواية الجواليقي (2/ 38)، دار القلم، بيروت، ولألفاظ القصيدة سياقات كثيرة على اختلافٍ في أبياتها.




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام